السبت، 25 سبتمبر 2010

خلاص.. بَح

(يبدو أن الفُسحة أوشكت على الانتهاء.. حتى لو لم تسمعوا صوت الجرس رسميا، هناك مؤشرات كثيرة تدل على اقتراب قرعه، مؤشرات لن أسردها لك، لأن «اللى مايشوفش من الغربال يبقى أعمى»، لكن عندى إحساس بأن لديك إحساسا بتلك المؤشرات المتصاعدة، لأن حضرتك «من هنا برضه وعارف». فى العالم المحترم تعتبر الفُسحة حقا أصيلا للطالب، لا منحة من الناظر، ليس من حق الناظر أن يلغيها متى شاء ولا أن يقرر طبيعة ما يقال فيها وما يدور خلالها، أما فى عالمنا التعبان فمن حق الناظر وحده أن يجعل أيامنا كلها فسحة، ومن حقه وحده أيضا أن يلغى الفسحة إلى الأبد، فهو وحده الأدرى بمصلحة رعاياه وهو الأحن عليهم من أنفسهم.. قال لى رجل محترم يعرف كثيرا من النافذين الذين يطلعون فى نشرة ستة التى ستظل تطلع حتى تطلع أرواحنا: «استمتعوا على قد ما تقدروا بهامش الحرية لأنكم ستترحمون عليه عقب الانتخابات الرئاسية أياً كان اسم الذى سيقررون إنجاحه فيها»، ثم حكى عن حوار دار بينه وبين أحد أولئك النافذين الذى قال له بالنص «اللى بيحصل دلوقتى كتير والبلد كلها فى خطر. وخلاص ماعادش فى مكان للصبر.. إحنا مش هنسيب شوية عيال يولعوا البلد.. ولا يهمنا لا ضغط دولى ولا نيلة.. مصلحة البلد فوق كل اعتبار»).
 ولكى لا أظلم الذين ظنوا يومها أننى متشائم أكثر من اللازم، أعترف أن جرس انتهاء الفسحة تم قرعه بأسرع مما توقع الجميع، ففى أسبوع واحد تم حجب برنامج المذيع اللامع عمرو أديب الشهير بـ«القاهرة اليوم» عن مشاهديه، وتمت «استقالة» الأستاذ إبراهيم عيسى من برنامج «بلدنا بالمصرى» على قناة «أون تى فى» المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس، وبدأت مضايقات تتراكم لبعض وسائل الإعلام والصحف، أصحابها هم الأولى بإعلانها ولست أنا، وعلى حد التعبير العبقرى لصحيفة «الفجر» منذ أن تم «ضرب المتشفر»، وكل «المفتوح» فى حالة من الارتباك لا يلام عليها.لا أعلم، وربما لن يعلم أحد، من هو صاحب تخريجة إغلاق استديوهات «أوربت» بحجة أنها متأخرة فى سداد مستحقاتها لمدينة الإنتاج الإعلامى؟ لكننى متأكد من أنه نال «شريطة» أو هبر علاوة كبيرة مكافأة له على اقتراحه الجهنمى الذى ألهى الرأى العام عن ملابسات القرار، ليضرب الناس كفا بكف متعجبين على أناس ميسورى الحال يجمعون مشكورين التبرعات بالملايين للمرضى والفقراء، بينما يتأخرون فى سداد مستحقاتهم ودفع مرتبات العاملين لديهم، لكن للأسف فى زحام التعجب المختلط بالسخرية تاهت حقائق كثيرة منها أن إدارة القنوات حاولت دفع مستحقاتها بالأصول وفورا ولم يتم الاستجابة لطلبها، وأن أزمة البث لم تكن متعلقة فقط باستديوهات مدينة الإنتاج الإعلامى، فقد كان هناك محاولتان تمتا من قبل إدارة «القاهرة اليوم» للبث على الهواء من مكانين معتمدين ومؤهلين للبث على الهواء، وتم إيقاف الحكاية قبل اكتمالها.
الذين سمعوا صوت المذيع والصحفى أحمد موسى يتحدث على الهواء مع المذيعة منى الشاذلى فى «العاشرة مساء» فى أول يوم تم حجب البرنامج فيه كادوا يشدون شعور حواجبهم من فرط الحيرة، وهم يسمعونه يتحدث غاضبا عن محاولة إسكات صوت «القاهرة اليوم»، فالكل يعلم أن الأستاذ أحمد من كبار مسؤولى تحرير «الأهرام» ويمتلك علاقات سياسية قوية ويستطيع الاتصال بكبار المسؤولين فى البلاد لمعرفة ما حدث بالضبط، كما أن هناك من نجوم البرنامج أيضا الأستاذ حمدى رزق، رئيس تحرير المصور، والأستاذة آمال عثمان، رئيسة تحرير أخبار النجوم، والأستاذ جمال عنايت الذى استضاف فى برنامجه كبار مسؤولى الدولة، وعلى رأسهم جمال مبارك، ومع وجود هذه الأسماء الكبيرة بكل علاقاتها وثقلها، وصلت الرسالة واضحة للجميع: فى الفترة القادمة لن يكون هناك عزيز أبدا.
لعلكم تذكرون أن عمرو أديب كان يقول دائما لمشاهديه جملة شهيرة «ارسم لى خط وأنا أمشى عليه»، وها هو الخط قد تم رسمه، وعلى الجميع أن يمشى عليه فى الفترة القادمة، وإلا فإن تلويح عمرو أديب بالاعتزال فى عام ٢٠١١، والذى أطلقه فى رمضان قبل الماضى فى حواره مع طونى خليفة فى قناة القاهرة والناس، يمكن ببساطة زى ما شفنا أن يتم تحويله إلى حقيقة واقعة، دون أن يفرق مع الدولة ببصلة.
لم يكن عمرو أديب مناضلاً سياسياً فى يوم من الأيام، هو دائماً يقول ذلك ولا ينكره، هناك أسباب كثيرة، شخصية وموضوعية، تجعل أقصى أحلامه أن يشاغب داخل المنظومة، يضرب أحيانا ثم يلاقى سريعا، لأن هدفه المشروع هو الاستمرار، دائما كنت أضحك عندما أسمع متصلاً بالقاهرة اليوم يقول له «إحنا خايفين عليك يا عمرو.. خلى بالك من نفسك يا عمرو»، ثم اتضح أن الناس لديها حق فى مخاوفها، وأن عمرو كان لابد أن يخلى باله من لسانه قبل نفسه. اتصلت بالأستاذ عمرو أديب يوم الثلاثاء الماضى لأفهم حقيقة ما يحدث منه مباشرة، لم أكن متابعا للبرنامج خلال شهر رمضان لأننى كنت مسافرا خارج مصر،
لذلك سألته إذا كان قد داس فى هذه الفترة على «رِجل» أحد بالذات، فقال لى ضاحكا وبدبلوماسية أنه يعتقد أن ما حدث «تكريم عن مجمل أعماله»، كان هادئا ومتماسكا وفى نفس الوقت كان يشعر بالمرارة والأسى، ولم يكن متأكدا من أى شىء سوى من كونه لن يغادر أبدا للعمل خارج مصر، برغم العروض المغرية التى تلقاها فور إعلان خبر الحجب، عمرو رجل ذكى ويعرف أن من تخرج رجله بره الدايرة لا يعود إليها أبدا، ولكم فى الأستاذ حمدى قنديل أسوة حسنة، هناك مساحة للبقاء داخل الدائرة بشروط ما، تتغير تبعا للظروف، لكن الدائرة يمكن أن تتسع فجأة ويمكن أن تضيق فجأة، وعلى الراغبين فى البقاء أن يتقبلوا ذلك دائما وأبداً ودون إحداث قدر مبالغ فيه من الضجيج.
بالبحث والتحرى بين الأصدقاء المتابعين للبرنامج والعودة إلى المنتديات التى يتابع أعضاؤها «القاهرة اليوم» إلى حد الهوس، سمعت وقرأت أن هناك حلقة ما كانت خلال شهر رمضان ورد فيها على لسان متصل بالبرنامج حديث متجاوز قليلا بحق جمال مبارك، أنهكنى البحث عن تلك الحلقة على اليوتيوب وعلى المنتديات كافة لكننى لم أجدها أبدا، مع أن ما يدخل اليوتيوب لا يخرج منه أبدا، على الأقل حتى الآن، لا أدرى إذا كانت تلك تشنيعة، ما يدفعنى لمواصلة البحث أننى أثناء سفرى قرأت تعليقات فى بعض المواقع الإلكترونية على تلك الحلقة عقب إذاعتها، لكننى لم أجدها على الإنترنت خلال الأيام التالية لقراءتى عنها، لا أدرى هل هناك حلقة فعلا، أم لا؟ للأسف لم يبد لى الوقت مناسبا لسؤال عمرو أديب عن ذلك، اللى فيه كان يكفيه، وربما يوجد بين القراء الكرام من يفيدنا فى هذا الأمر لعلنا نفهم حقيقة ما حدث، دون أن نحرج أحدا معنا.
على أى حال، انتهى الأسبوع الماضى وسط تزايد الأخبار التى تتحدث عن قرب انفراج أزمة «القاهرة اليوم»، خاصة وقد فهمت إدارة البرنامج الدرس جيدا، واختارت حتى عند إعادتها لبعض الحلقات أن تحجب فى بعضها فقرات المقدمة التى كانت تحتوى مشاغبات لعمرو أديب، البعض من ذوى النفوس البريئة فسر ذلك أنه عدم رغبة فى إعادة فقرات تجاوزها مرور الزمن، لكننى تلقيت ملاحظة من قارئ خبيث قال فيها إن البرنامج عندما كان يعيد حلقات خلال فترات توقفه فى الإجازات، كان يختار إعادة الحلقات التى توجد بها فقرات ساخنة ولاذعة لضمان تكرر المشاهدة،
لذا يبدو أن إدارة البرنامج أرادت توجيه رسالة إلى من يهمه الأمر، ولا تستطيع أن تلومها أبدا، فأنت هنا تتحدث عن عمل إعلامى احترافى يكلف ملايين الدولارات ولا خيار أمامه سوى الاستمرار، وقد كان بالمناسبة ناجحا عندما كان يهدف فقط إلى الإمتاع والمؤانسة، وعليه أن يظل ناجحا ولو حتى بدرجة أقل من المشاغبة، خاصة أنه كان ينادى دائما «ارسم لى خط وأنا أمشى عليه»، فلا يصح أن يلومه المشاهد الجدع لو مشى فعلا على خط تم رسمه له.
أما حكاية استبعاد الأستاذ إبراهيم عيسى من قناة «أون تى فى» فتلك قصة أخرى، نتكلم عنها غدا إذا عشنا وكان لنا نشر.

الخميس، 16 سبتمبر 2010

كسب الإخوان وإن غضبوا


أستغرب ردود أفعال الإخوان على مسلسل «الجماعة»، رغم أنه لم يقل أكثر مما دأبت الأبواق الإعلامية فى مصر على ترديده طوال نصف القرن الأخير، ولا أعرف كيف توقعوا أن يتعامل المسلسل معهم بحياد وموضوعية فى حين أن الذين قاموا به من خصومهم، فضلا عن أن المناخ السياسى معبأ بالرياح المعاكسة لهم، مع ذلك فأزعم أنه أفادهم بأكثر مما أساء إليهم.

من ناحية لأنه أعاد اسم الجماعة إلى الضوء، ليهدم الجهد الذى بذلته وزارة الداخلية طوال السنوات الأخيرة، حين أصدرت تعليماتها لكل من يهمه الأمر بالكف عن ذكر اسم الإخوان والاكتفاء باستخدام مصطلح «المحظورة» فى الإشارة إليهم، حتى أنها وجهت عتابا للمجلس القومى لحقوق الإنسان لأنه تجرأ وذكر اسم الإخوان المسلمين صراحة فى أحد تقاريره قبل سنتين ولم يلتزم بالتوجيه، إلا أن المسلسل جاء ليجعل الاسم على كل لسان، ويحول أفكار الإخوان إلى موضوع للمناقشة فى كل منتدى وصحيفة، ولم يكن ذلك المكسب الوحيد للجماعة، لأن الدراما أوصلت إلى المشاهد العادى خطابا ومفردات للإخوان لم يكن بوسعهم أن يوصلوها إليه فى ظل الأوضاع التى أحاطت بهم خلال نصف القرن الأخير، إذ أقنعه بأنهم فى الأصل دعاة إلى الله وإن كانوا قد ارتكبوا أخطاء فى الوسائل التى استخدموها لبلوغ ذلك الهدف، والإقبال الذى حدث على كتب الإخوان وتلك التى صدرت عن بعض قياداتهم، خاصة رسائل الأستاذ البنا وكتابه مذكرات الدعوة والداعية وغيرها من المذكرات من القرائن التى تدل على أن المسلسل جذب كثيرين وأثار فضولهم ودفعهم إلى تحرى الحقيقة فى شأن الوقائع والأحداث التى عرضها، وربما شجعهم على ذلك أن المسلسل منذ بداياته أثار شكوكا قوية فى رسالته، وأعطى انطباعا بأنه عمل سياسى بأكثر منه عمل فنى، وان الجهد الأمنى فيه أكبر من الجهد الثقافى والإبداعى.
حين يحقق الإخوان هذه المكاسب فى ظل الظروف الراهنة غير المواتية لهم، فإن ذلك يفترض أن يكون سببا لارتياحهم وليس غضبهم، ولذلك لم أفهم التصريحات الانفعالية التى صدرت عن بعض قياداتهم بخصوص الموضوع، ولم أهضم فكرة إنتاج فيلم مقابل يرد على رسالة المسلسل، ناهيك عن أننى أشك كثيرا فى أن يقبل أى ممثل محترف أن يشترك فيه، لأن ذلك سيعد انتحارا من جانبه يؤدى إلى وقف حاله فى السينما والتلفزيون، علما بأن «الفيلم» يظل عملا فنيا ليس للإخوان باع فيه.
لذلك تمنيت على الإخوان أن يصرفوا النظر عن فكرة الفيلم المضاد، خصوصا أننى لا أتوقع له النجاح لأنه إذا أراد أن يبيض صفحة الإخوان، فإنه سيقع فى ذات الخطأ الذى ارتكبه مؤلف المسلسل، الذى جعل من شيطنة الإخوان هدفا له.
إن مشكلة المسلسل أنه لم يتعامل مع الإخوان كجزء من الحركة الوطنية، وكفصيل شارك فى العمل العام فأصاب وأخطأ ونجح وأخفق. ولكن هاجس الشيطنة الذى ظل يطل منه طول الوقت أفقده صدقيته ورصانته. ورغم أن مؤلفه أشار إلى قائمة طويلة من المراجع موحيا بأنه استند إليها، إلا أن المدقق فى حلقات المسلسل يكتشف أن 80٪ على الأقل من معلوماته مستقاة من كتاب واحد لأحد غلاة الشيوعيين من خصوم الإخوان الألداء، وهناك أكثر من مرجع محترم أورده فى القائمة، إلا أنه اكتفى بذكر عناوينها وتجاهل تماما مضمونها.
بدلا من التورط فى إنتاج فيلم مضاد، ليت الإخوان يقدمون لنا دراسة نقدية هادئة للمسلسل تصحح ما قدمه من معلومات، سواء ما تعلق منها بفكرة الجهاز الخاص الذى كان من تقاليد الجماعات السياسية المناهضة للاحتلال الإنجليزى فى الأربعينيات، أو بالموقف من الأحزاب أو بالعلاقة مع الأقباط الذين شارك اثنان منهم فى اللجنة السياسية للجماعة أيام الأستاذ البنا، ولهم أيضا أن ينبهوا إلى الجوانب التى تجاهلها المسلسل فى سياق التزامه بنهج «الشيطنة» وفى مقدمتها دورهم فى قضية فلسطين، وإسهامهم فى الحركة الوطنية المصرية التى ابتدعوا لها «الوِرد الوطنى». وكانت المطالبة بالجلاء على رأس أولوياته. كذلك دورهم فى التقريب بين المذاهب الإسلامية.
إن حوار الأفكار هو أقصر الطرق لاستجلاء الحقيقة، وللنفاذ إلى عقول الناس وكسب احترامهم.

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2010

من أحرق المصحف؟

قل لى بالله عليك.. كم مرة فى حياتك التى لاتسر الصديق ولاتغيظ العدا شاهدت هذا المشهد العبثى المرير؟.

أعنى المشهد الذى يذهب فيه الحاكم العربى ليفتتح مصنعا أو يحضر مناسبة وطنية أو دينية أو يلتقى بثلة من أفراد شعبه المتدله فى حبه، وبعد أن يلقى عليهم الخطاب الذى كتبه شخص آخر وقام شخص ثالث بتدريب الحاكم على إلقائه بالتشكيل، وبعد أن تلتهب أكفهم من التصفيق وحناجرهم من الهتاف بفدائه بالروح والدم والعضم، وبعد أن يقوم بتوزيع شهادات التقدير لقدامى المنتسبين إلى الموقع الذى يزوره، لأنهم استطاعوا أن يتحملوا الحياة فى عهده كل هذا الوقت، يقف مسؤول الموقع المزور - من الزيارة والتزوير معا - بكل خشوع، وينظر إلى الحاكم نظرة مديحة يسرى لعبدالحليم حافظ فى فيلم الخطايا، نظرة كلها أمومة وطفولة وتنظيم أسرة فى نفس الوقت، بينما يعلن المذيع - بكل فخر - أن الوقت قد حان لكى يتلقى الحاكم هدية أبنائه فى هذا الموقع، يقف الحاكم متصنعا أنه «مفوجأ» بموضوع الهدية هذا و«أنه ماكانش عامل حسابه على هدايا»، لكن نظرة الإصرار فى عين المسؤول الأوطى منه فى الترتيب القيادى تذكره بأن النبى قبل الهدية، فيبتسم الحاكم ابتسامة كلها رضا عبدالعال، بعدها تأتى الهدية يحملها اثنان من الموظفين يتم اختيارهما بعناية، حيث يتم التأكد من خلوهما من الأمراض المعدية والمشاعر وعدم القدرة على العض، يسيران بتؤدة كأنهما جمل المحمل يحمل كسوة الكعبة، يصلان إلى الحاكم وهما يحاولان منع نفسيهما من الارتماء فى حضنه لكى لا تقع الهدية منهما، يهرول رئيسهما ليفتح الهدية التى تكون دائما صندوقا كبيرا مغلفا بالقطيفة الفاخرة، ثم يفتح الصندوق لنرى بداخله مصحفا شريفا ضخما بغلاف فاخر موشى بماء الذهب، ينظر إلى الحاكم بفخر من جاب التائهة، يرد له الحاكم النظرة بعشرة أمثالها، ثم يقترب من المصحف ويميل عليه ويقبله، يسود المكان جو روحانى يشعرك أنك فى عصر الخلافة الراشدة، وربما لو تركت لخيالك العنان لاعتقدت أن الحاكم الذى يقف أمامك هو السلطان صلاح الدين الأيوبى، وأن ماكان يفتتحه هو المسافر خانة أو دار الحكمة، وأن رسولا بالباب سيدخل ليعلن فتح أنطاكية، ولظننت أن السلطان سيأمر للذى أهداه المصحف بصرة من الدنانير تحية لتقواه، ولتخيلت أن الحاكم من فرط تأثره سيقوم بفتح المصحف وسيأمر الحاضرين وعلى رأسهم كبار رجالته بإخراج مصاحف صغيرة لتتحول الجلسة إلى مقرأة يقرأ فيها الجميع كتاب الله، لكنك ستفيق من كل خيالاتك هذه عندما يلتفت الحاكم خلفه لينظر إلى أحد مساعديه نظرة ذات مغزى (خذ بالك أن المشهد برمته صامت وهذه أرقى أشكال التعبير البصرى) فيقترب المساعد بثبات وجلال وأحيانا جلال بيكون واخد أجازة فيقترب بثبات فقط، يعيد المساعد المصحف الفاخر إلى صندوقه ويغلقه عليه ثم يحمل الصندوق بمفرده ويتراجع دون أن يدير ظهره للحاكم وسط تصفيق جنونى من الجميع، بينما يغرق مسؤول الموقع الحاكم فى بحر من نظرات الامتنان لأن هديته نالت القبول، متمنيا أن تحل بركة الهدية عليه لكى ينتقل من هذا الموقع المدعوق الذى تدفن فيه مهاراته إلى موقع يستطيع السرقة فيه بشكل أكبر، ويفهم الحاكم نظراته الشغوفة فيهز له رأسه مطمئنا ومطالبا بالصبر والتريث لأن كل شىء بنصيب.
الآن وقد وصفت لك هذا المشهد بدقة أحسبها متناهية لدىّ سؤال وحيد يشغلنى «يا جدعان هى المصاحف دى كلها بتروح فين؟»، أليس هذا بالذمة سؤالا محيرا، ألا يشغل بالك والنبى، يعنى لو فرضنا أن الحاكم ظل فى موقعه خمسة عشر أو عشرين عاما، قول أربعة وعشرين أو قول ثلاثين، يعنى ليس المهم عدد السنوات الآن، المهم هو معرفة مصير تلك المصاحف الفاخرة التى تساوى الشىء الفلانى التى يظل الحاكم يتلقاها خلال «جثومه» على منصبه، فإذا كان يذهب إلى مناسبتين كل شهر على الأقل فهو يتلقى خلال العام ما بين عشرين وأربعة وعشرين مصحفا، يعنى إذا كان قد بقى فى الحكم ربع قرن سيكون لديه الآن خمسمائة مصحف على الأقل، يعنى أكثر مما بداخل المقر الرئيسى للجمعية الشرعية من مصاحف، وهو أمر ينبغى أن نفتخر ونعتز به فنحن فى بلد الأزهر ويشرفنا أن يكون لدى مسؤولينا هذا العدد الكبير من المصاحف الموشاة بماء الذهب، لكن ما سيشرفنا أكثر أن يفكر المسؤول الذى يتلقى المصحف ولو لمرة واحدة فى قراءته والتأمل فى بعض آياته الكريمة بدلا من تقبيله والالتفات إلى مساعده لكى يحمله إلى حيث يتم تخزينه مع سابقيه، ولكى لا أظلمه ربما لاتكون الغلطة غلطته بل غلطة من يهدى له المصحف حيث يختار له حجما كبيرا ليس من السهل القراءة فيه، كما أنه يضعه فى صندوق ثقيل ومحكم الإغلاق وهى كلها طقوس تتنافى مع روحانية الهدية. ربما لو أنصف من يهدى المصحف إلى أى مسؤول وأراد به وبنا خيرا، لكان أكثر تحديدا وهو يهدى المصحف إليه فيفتحه له على آية محددة ويهمس فى أذنه «يا ريت سعادتك تقرا الآية دى»، إذ لربما قرأها فعلا فأيقظت ضميره وأحالت الجبل الجاثم فوق مشاعره خاشعا متصدعا من خشية الله.
يعنى أليس من الأوفق ونحن نهدى للمسؤول مصحفا قطيفة أن نذكره بالآية الكريمة «إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. إلخ الآية»، أو بآية «ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها.. إلخ الآية»، أو بآية «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون.. إلخ الآية»، أو بتلك الآية الجامعة المانعة «ليجزى الله كل نفس ماكسبت إن الله سريع الحساب». ألن تصبح حياتنا أفضل حينها؟،
فنكون مسلمين حقا وصدقا، لامسلمين فقط بالمظاهر الكاذبة والطقوس الجوفاء، أليس من الأفضل أن نفرج عن المصحف من صندوقه القطيفة الفاخر لننتفع حقا وصدقا بما فيه؟، وإلا فلنفضها سيرة ونعلن أننا لسنا معنيين بما فيه ونهدى للحاكم علبة شيكولاتة أو قزازة ريحة؟، ألا يأتى علينا اليوم الذى يرفض فيه الحاكم أن يعطى المصحف المهدى إليه لمساعده بل يأخذه بنفسه ويترك كل من حوله وما حوله ويجلس محاولا أن يتأمل ما بداخل المصحف لعل كتاب الله يهدى طريقه وينير قلبه فيحارب الفساد والتطرف ويكافح الظلم والجهل؟.
ربما ستجد الإجابة على كل هذه الأسئلة فى ثنايا التعبير القرآنى البديع «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم»، وهى الإجابة التى ستقودك إلى سؤال أخير: لكن ماذا عن جلود الذين لايخشون ربهم؟.