الاثنين، 24 يناير 2011

اقرأ وتأمل


فى سنواته الأخيرة كان الطاغية التونسى الحبيب بورقيبة يخلط بين الواقع والتمثيل وبين الجد والهزل.. ومع الأيام بدأت عوارض هستيرية تظهر عليه، فقد أصبح يمر من حالة النشوة والضحك إلى حالة من الحزن والبكاء دون أن يكون بإمكانه أن يحبس دموعه بسهولة، ومن حالة المرونة والأريحية إلى حالة عدوانية قصوى يستعمل فيها كلمات جد مبتذلة حتى أمام وزرائه وضيوفه، فمرة سمع يقول لأحد وزرائه »كان بن صالح ينكح كل نساء وزرائى، فلماذا لا تفعل مثله وأنت عازب«، أما فى اجتماعات المكتب السياسى فقد كان يمسك بعصاه ثم يأخذ فى الدوران حول الطاولة ومن حين لآخر كان ينقر رأس أحد وزرائه، وكانت تزداد عدوانية بورقيبة حين يلتقى بالنساء، ففى إحدى المرات وقفت أمامه صحفية وسألها عن اسمها فقالت: حليمة، صمت لحظة ثم التفت إلى مساعديه وقال بلا خجل مشيراً بيده المرتعشة إلى صدرها: أنا أعرف حليمتين، الأولى مرضعة الرسول والثانية هذه السيدة التى يمكن أن ترضع شعباً بأكمله.
ـ فى آخر اجتماع لبورقيبة مع مجلس وزرائه فى الأول من أكتوبر 1987 انفجر شلال السب والشتم من فم بورقيبة باتجاه رئيس وزرائه رشيد بوصفر قائلا له »هل تظن نفسك أنك الزعيم أو أنك تظن أن الزعيم مات؟«، ثم واصل شتمه فوصفه بالنذل والخصى والمخنث، ثم قال له »إننى مازلت قادرا على نزع سروالك«، ثم أضاف: »هل ترى هذه العصا، سوف أضعها فى مؤخرتك، أنت لست رجلا«، وقبل أن يتعب بورقيبة من الصراخ، كان بعض الوزراء قد تسللوا إلى الخارج من فرط الحياء منهوكى القوى والكرامة وقد اكتشفوا أخيراً مدى هشاشتهم أمام ذلك العجوز، كما اكتشفوا أنهم ليسوا إلا شهود زور على قتل بلاد بكاملها. ـ عندما قرر بن على الإطاحة ببورقيبة طبقا للمادة الدستورية التى تفيد بوجود مانع مطلق يمنعه من الحكم تم استدعاء سبعة أطباء فى وسط الليل منهم عسكريان، ليس إلى قصر بورقيبة وإنما إلى وزارة الداخلية حيث التقوا بـ»بن على« الذى طلب منهم وضع تقرير طبى عن عدم قدرة الرئيس صحياً على الحكم، واحتج أحدهم بأنه لم ير بورقيبة منذ سنتين، فرد الجنرال صارما »هذا لا يهم، وقع«، ووقع الأطباء وانصرفوا.
ـ بعد عزله وتحديد إقامته فى قصره بعد 31 سنة من الحكم كان بورقيبة من أجل كسر الملل يلجأ إلى الهاتف فيطلب أرقاما كيفما اتفق وما إن يرد الطرف الآخر حتى يقول له »هل أنتم عائلة منسيترية؟ أنا الحبيب بورقيبة وأحب المنستير«، ثم يقفل السماعة، وقد اتصل مرة بالإذاعة المحلية غاضبا »أنا سبب وجودكم ولا تذكرون اسمى مرة واحدة«. كل الوقائع السابقة مجتزأة من كتاب بورقيبة »سيرة شبه محرمة« للكاتب التونسى الصافى سعيد والصادر عن دار رياض الريس. أما الوقائع التالية فقد اجتزأتها لك من كتاب (صديقنا الجنرال زين العابدين) للكاتبين الفرنسيين نيكولا بو وجان بيير توكوا، ترجمة زياد منى، والذى صدر عن دار قدمس السورية:
ـ فى أول سفر له إلى الخارج بعد توليه الرئاسة أدى بن على العمرة، وشوهد فى التليفزيون يقبل جدار الكعبة والدموع فى عينيه وكتفه عار تماما، وتبدأ أقل مداخلة له بالتعبير الدينى (بسم الله الرحمن الرحيم)، وأعلن »بن على« على الملأ »يتوجب على الدولة وحدها السهر على ازدهار الإسلام وتألقه«.. لقد لعب النظام ببراعة على تناقضات شعب منقسم بذاته، وشهدنا خلال تراجع الإسلاميين إدارة براجماتية وذكية للإسلام. ـ حتى الوثائق المدرسية لـ»بن على« فى ثانوية سوسة اختفت بعد بضعة أيام من توليه الرئاسة.
ـ طالب تونسى اسمه مروان بن زينب كان مهتماً بالمعلوماتية وغير مهتم بالسياسة أبدا، عمره ست وعشرون سنة حصل على منحة جامعية فى أمريكا الشمالية، دخل سهواً على النظام المعلوماتى للقصر الرئاسى، وبعدها باح خائفا للمقربين منه أنه وجد قائمة عملاء للموساد معتمدين فى تونس العاصمة لمراقبة المسؤولين الفلسطينيين المقيمين فى تونس، بعدها بأيام مات مروان فى حادث سير، وفى يوم دفنه لازمت الشرطة عائلته حتى يتم الدفن، كان ذلك فى عام 1989 بعد عامين من التغيير.
ـ عندما انتقد وزير الثقافة السابق محمد شرفى أمام خمسة من ضيوفه فى منزله سياسات بن على استحق بعدها بأيام فى عام 1995 أن تنشر صحيفة حكومية قائمة نفقات ضخمة يعلوها الغبار يعود تاريخها إلى فترة شغله منصب الوزارة تحت عنوان (انظروا أين تذهب أموال أولادنا؟).
ـ عندما علم بن على أن شقيقة ميتران كانت تعيش من مواردها الخاصة اندفع قائلا »لن أترك هذا يحدث لأفراد عائلتى أبدا«.
ـ فى عام 1997 نشر ملحق مجلة »لو نوفيل آفريك آزى« الأسبوعية صورة قديمة لرئيس الدولة يظهر فيها بشعر وخطه الشيب، نجم عن ذلك إتلاف نسخ المجلة، فالجنرال الذى لا يأنف من اللجوء إلى الصبغة، لا يستطيع إلا أن يكون ذا شعر داكن على نحو متناسق.
ـ عرف بن على كيف يستغل الوضع الدولى، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر، على أساس أنه يقود منذ التسعينيات نضالاً ضد الإسلاميين، ويدافع عن النور والديمقراطية، وها هو يحتفى به كأحد أكثر رجال السياسة وعياً فى العالم العربى، كم كان عليهم أن يسمعوه بدل أن ينتقدوه، هكذا يهتف مادحوه، بعد أحداث سبتمبر نبشت الصحافة التونسية مقابلة قديمة منحها بن على لصحيفة نمساوية موضوعها (يجب اجتثاث الإسلاميين، وهذا ما قمت به فى بلدى، انتقدتمونى، ترون اليوم أنى كنت على حق). وبالتالى بدأت الصحف الغربية والمسؤولون الغربيون يتحدثون عن أن الديمقراطية لا تولد بين عشية وضحاها وأنها تحتاج إلى وقت لكى تتحقق.
ـ فى نهاية 2001 كتب الصحفى توفيق بن بريك فى كتابه (مذكرات الواشى) يقول: بن على هنا وسيبقى هنا لأن أمامه طريقاً ممهدة، معارضة سخيفة مجزأة إلى مجموعات صغيرة لا جيش لديها ولا مشروع، زعماؤها هم شركاء سابقون، ومثقفون من نوعية غير جيدة.. واستغرق الأمر عشر سنوات حتى يسقط بن على.
ـ عندما كان المراقبون الغربيون يتساءلون لماذا تندر حالات الإضراب عن الطعام فى السجون التونسية وجدوا تفسيرا فى رسالة من طبيب شقيق معتقل فى سجن تونسى أرسلت إلى صحيفة فرنسية فى عام 1998 كشف فيها أنه عندما يبدأ سجناء الرأى فى الإضراب عن الطعام، يقوم الحراس فى اليوم الثالث للإضراب بتقييدهم وإعطائهم حقناً شرجية فيها مواد دوائية مثل الفاليوم وعند الاستيقاظ لا يعود السجناء يتذكرون أنهم كانوا مضربين عن الطعام، وبهذه الطريقة ينهى إضرابهم.
ـ فى بدايات قمع الملتحين فى عام 1991 مات الطالب فيصل بركات، وهو طالب فى قسم الرياضيات كان قد طالب فى مقابلة متلفزة بالحرية النقابية، وتم إخبار أسرته أنه مات فى حادث سيارة لكن التشريح الطبى قال إن الوفاة ناجمة عن إدخال جسم فى الشرج، وهى ظاهرة نادرة للغاية فى حوادث السير، وحتى اليوم (2002) يتعرض شقيقه لملاحقة أعوان النظام كيلا يتقدم بشكوى هو أو عائلته.
 أما زوجة الناشط الإسلامى اللاجئ فى ألمانيا السيدة بوجريص، وهى أم لثلاثة أطفال، فقد انقض عليها ذات يوم حوالى عشرين شرطياً ونزعوا عنها ثيابها حتى عروها وأخذوا يكيلون لها الضربات على كل أجزاء جسمها وهم يشتمونها، ناعتين إياها بالساقطة، وهددوها بالاغتصاب إذا لم تقل كل ما تعرف عن زوجها، بعد ذلك استخدم رجال الشرطة الصدمات الكهربائية وعندما أغمى عليها توقفوا عن تعذيبها وأرغمت على طلب الطلاق من زوجها مرتين. هذا غيض من فيض حكايات موثقة دولياً عن ما كان يحدث فى عهد الطاغية بن على الذى تستضيفه المملكة العربية السعودية التى تحتضن الكعبة المشرفة وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
ـ أخيرا قال الله تعالى فى كتابه الكريم »ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. مهطعين مقنعى رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء«، ولعل عظمة الشعب التونسى أنه لم يكتف بالانتظار حتى يأتى ذلك اليوم بل عمل بأوامر الله تعالى فسعى لتعجيل العقاب للظلمة فى الدنيا قبل أن يذوقوا العذاب المهين فى الآخرة.

الأحد، 23 يناير 2011

«أبوذر» يظهر أمام مجلس الشعب


«عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس حارقاً نفسه»، عبارة صادمة لا أدرى هل كان سيدنا «أبوذر الغفارى» سيقولها لو كان حياً بيننا الآن بدلاً من قولته الشهيرة «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»؟. ربما لم يقلها فقد كان رضى الله عنه رجلاً مؤمناً يعرف أن الانتحار يأس واليأس كفر، ولذلك لعله كان سيتمسك بشهر السيف بأشكاله الدستورية المعاصرة من إضرابات واعتصامات ومظاهرات وعمل سياسى وكلها بدائل أكثر فاعلية ونجاعة من حرق النفس.
 وبالتأكيد كان شيوخ الدولة سينعقدون بكامل هيئاتهم لكى يصدروا بياناً لإدانة منهج أبى ذر التحريضى، وشجب خروجه على الحاكم، ودعوته للالتزام بطاعة أولى الأمر بدلاً من إثارة البلبلة وتهييج الجماهير وإيقاظ الفتنة. لم يكن فى أيام أبى ذر مجامع حكومية للإفتاء، لكن كان هناك مستفيدون من الأوضاع القائمة، ومستغلون لأطهر النصوص فى خدمة أحط المقاصد، وأولئك هم الذين نفوا أباذر وحققوا فيه نبوءة سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم «يعيش وحده، ويموت وحده، ويُبعث يوم القيامة وحده»، وأمثالهم فى أيامنا هم الذين يتشطرون على الراغبين فى الانتحار حرقاً، ويصمتون عن الذين دفعوهم إلى الانتحار.
«هل أنا مع الانتحار؟».. سؤال ستعاجلنى به الآن، طيب يا سيدى، سأجيبك بحكاية، منذ عشرين عاماً كنت طالباً فى السنة الجامعية الأولى، مرت علىّ أيام وليال لم أكن أملك فيها قوت يومى بعد أن نفدت مدخراتى وتقطعت بى السبل، ومع ذلك لم أفكر فى الخروج على الناس حارقاً نفسى ولا شاهراً سيفى، لماذا؟ لأنه كان لدىّ أمل يعصمنى من الكفر، عشت ليلتين لا أجد ما آكله سوى أرغفة عيش قديمة وبرطمان ليمون معصفر وبرطمان عسل تجمد فى الشتاء دليلا على جودته، وكنت أعانى فى كحته بالمعلقة لكى أفرشه على سطح الرغيف، ومع ذلك كله كنت سعيداً جداً لأن جدتى أعطتنى البرطمانين قبل نزولى من الإسكندرية إلى القاهرة وإلا لكنت ربما قد لجأت إلى التسول إسكاتاً لوحش الجوع، لماذا لم أفكر فى الانتحار يومها؟ ببساطة لأننى اخترت تلك الحياة القاسية بمحض إرادتى، تركت العيش المحتمل مع أهلى وقررت أن أطارد أحلامى، نعم كانت لدىّ أحلام وأيضاً كان لدىّ راديو، ولا أظن أن أحداً يستمع إلى إذاعتى البرنامج العام والشرق الأوسط يمكن أن ينتحر.
كلامى كئيب؟ طيب خذ عندك تفسيراً ألطف قليلاً، ربما لم أفكر فى الانتحار وأنا شاب مطحون لأننى جربته وأنا صبى بائس، الانتحار كان مرهقاً جداً، كنت فى التاسعة وقررت أن أهرب من تعاستى الأسرية بأن أبتلع كل ما يوجد من أدوية صلبة وسائلة كانت تشغل حيزاً كبيراً من (دولاب الأدوية) الذى كان ضرورة فى بيت مكتظ بالسكان، فعلتها وظللت أسفله ساعتين أنتظر الموت، لكنه لم يأت، وجاء مكانه مغص حقير تمنيت الموت لكى أرتاح منه ومن التأتيت الذى تعرضت له طيلة اليوم الذى استغرقته لغسيل معدتى، «عايز تموت كافر يا حيوان»، أمى قالتها لى وهى تحتضننى وتبكى، وأنا رددت عليها بما أمتلكه من معلومات دينية أحفظها وبكل ثبات لا يناسب التقطيع الذى تشهده معدتى «أموت كافر إزاى وأنا مابلغتش سن التكليف.. أنا كنت هاخش الجنة وأستريح»، لذلك ولذلك كله نصيحة من منتحر سابق: لا تجربوا الانتحار لأنه ليس مريحاً على الإطلاق فى حالة فشله.
عارف؟ قبل أيام وفى عز هوجة محاولات الانتحار التى أعقبت ثورة الشعب التونسى، طلب منى معد فى برنامج شهير أن أشارك فى حلقة يُفترض أن هدفها نصح الشباب بأن يتوقفوا عن التفكير فى الانتحار، المعد كان زميلاً لى فى الجامعة وزارنى مرة فى الشق الذى كنت أعيش فيه وقتها، العشم الذى بيننا جعلنى أشتمه وقلت له: «هل تتصور أننى يمكن أن أشارك فى دجل كهذا.. هل تريدنى أن أحدث الناس عن حرمانية الانتحار وعن حلاوة الأمل ثم أخرج من الاستديو لأركب سيارتى الفارهة وأعود إلى بيتى لآكل عشاء صحياً ثم أنام قرير العين»، لم أقل له هذا بالفصحى طبعاً، بل بعامية ممزوجة بشتائم يعاقب عليها القانون، والعشم الذى بيننا جعله يرد الشتيمة بأقذع منها قبل أن يسألنى: «طب ترشح مين يقول بقين حلوين عن الأمل واليأس؟».
الحكاية هكذا بالضبط، كل الذين يتحدثون الآن سواء بإخلاص أو بغير ذلك لا يقولون للناس سوى «بقين حلوين عن الأمل واليأس»، والمقرف أن الكل يتحدثون وكأن حكاية الانتحار سخطاً اختراع تونسى ابتكره المرحوم بإذن الله بوعزيزى وسمع به المصريون فجأة، والكل ينسى أن من لم يهزه انتحار عبدالحميد شتا فلا خير فيه.
ياه، أعرف أن النسيان آفتنا جميعا، ولكن أرجوكم لا تقولوا لى إنكم نسيتم عبدالحميد شتا، باحث الاقتصاد والعلوم السياسية، المجتهد الطموح، الذى انتحر لأنهم حرموه من كذا وظيفة مرموقة بوصفه «غير لائق اجتماعياً»، لأنه ببساطة «ابن ناس غلابة» يعيش فى بلد الثورة المجيدة، ثورة يوليو التى قام بها أولاد الفلاحين والعمال من أجل أن يصبح أولادهم بهوات لا يجرؤ ابن فلاح أو عامل على أن يحلم بحب إحدى بناتهم كما كان يحلم ابن الجناينى بإنجى.
انتحر عبدالحميد شتا، وهاجت الصحف على سيرته بضعة أيام أو قل بضعة أسابيع، ثم ماتت سيرته وماتت معها أسئلة خطيرة لم يكن ينبغى أن تموت أبداً: من الذى يحصل على أهم الوظائف فى الدولة، وهل مازالت هناك أماكن مرموقة تحت الشمس لابن فقير أو بسيط دون أن يلتحق بخدمة الأسياد أو يحصل على مباركتهم وزقة منهم، وأى سلم اجتماعى الذى نشأ فى مصر طيلة الخمسين عاماً الماضية؟، وإلى أى هاوية هبط بنا هذا السلم؟، وهل بات علينا ألا نكتفى بأن نحلم بالعودة إلى أهداف الثورة التى نحتفل بها كل عام، بل نوسع نطاق الحلم ليمتد إلى أيام ما قبل الثورة المجيدة عندما وصل إلى زعامة الأمة ابن نجار بسيط اسمه مصطفى النحاس ليصبح نداً للباشوات والإقطاعيين قبل أن يصبح قائدا لهم بمجهوده وكفاءته وتميزه وليس بانتخابات مزورة أو صدفة عبثية.
أذكر أننى بعد رحيل عبدالحميد شتا كتبت معالجة سينمائية عن قصته الحزينة وأسميتها «غير لائق اجتماعيا»، وظللت لمدة ثلاث سنوات أبحث عن فرصة إنتاجية لها دون جدوى، وكانت الجملة الوحيدة التى أسمعها من الجميع «ياراجل حرام عليك.. الفيلم غامق وماحدش هيخش يشوفه». طبعاً، صح، أعترف أن الفيلم غامق، ولن يكون أحد مضطراً للدخول لرؤيته فى دور العرض، لكن المشكلة أنه لم يعد فيلماً على الإطلاق، بل أصبح واقعاً لا تستوعبه أى دار عرض مهما كان اتساعها، الفيلم أغمق مما نتصور، ولا تنخدعوا بالالتباس الذى رافق قصة أو قصتين من قصص الراغبين فى الانتحار، ولا يخدعكم أنها كانت هوجة وستعبر فى ظل شعب يحب الحياة ويرضى بأى شكل من أشكالها، فالقادم أسوأ بكثير، ولن يكون انتحارا احتجاجيا بل سيكون مجتمعا يأكل بعضه بمليون طريقة وطريقة، ويخطئ كل من يتعامى عن هذه الحقيقة التى ينبغى أن تخيف الجميع أغنياء وفقراء.
لست محتاجا إلى فتوى شيخ لكى أعرف أن الانتحار ليس حلا ولا حلالا، لكنك عندما تشاهد على شاشة التليفزيون صوراً للشارع الذى خرج منه الشاب الإسكندرانى الذى انتحر حرقاً، وهو يطفح بالمجارى حتى حواف أبواب بيوته وينضح بالبؤس والتعاسة، تسأل نفسك لماذا قرر ذلك الشاب أن ينتحر بدلا من أن يأخذ كل من يعيشون معه فى ذلك الشارع البائس ليرموا أنفسهم وعيالهم وحالهم وهمهم أمام باب محافظ الإسكندرية لكى يجبروه على منحهم حقوقهم فى حياة آدمية كريمة، هل كانت الحكومة ستقتلهم جميعا، أو حتى هل كانت ستحبسهم جميعا، بالطبع لا، هم ببساطة لم يفعلوا ذلك لأن كل أبواب الاحتجاج السلمى تم تخويفهم منها، لأن هناك من قتل السياسة فى هذا البلد ظناً منه أن ذلك سيحقق الأمن لأسياده وشركائهم، لأن سكان ذلك الشارع لم يسمعوا عن أبى ذر الغفارى، فهو ليس محبوبا لدى المتشددين الذين فتحت لهم الحكومة أبواب المجتمع مشرعة لكى يعبثوا بعقول الناس، وليس محبوبا لدى المنبطحين الذين حولوا الدين إلى وظيفة يأكلون منها الشهد.
حسنا، المنتحر سيذهب إلى النار، شكرا يا مشايخنا الأجلاء على المعلومة القيمة، ولكن يا ترى هلّا أجبتمونا إلى أين سيذهب الشيوخ الذين يصمتون على ظلم الحكام واستبدادهم وفسادهم، وإلى أين سيذهب الحكام الذين يدفعون ببلادهم إلى التخلف والتطرف والجهل، إلى أين سيذهب اللصوص الذين يثرون من مناصبهم ثم يعلنون محبتهم لمصر ويدعون إلى عمل الخير، إلى أين سيذهب المنافقون والظلمة والجلادون، إلى أين سيذهب الذين يعذبون الناس بالكهرباء والذين يستبيحون حرمة البيوت والذين يقمعون المتظاهرين والذين يفسدون فى الأرض بعد إصلاحها والذين يزوّرون الانتخابات والذين ينشرون الجهل والذين يمسخون روح الفقراء والذين يصنعون فى كل بيت تاجر مخدرات ومدمناً وبلطجياً وفتاة ليل ومنتحراً بوسيلة أو بأخرى، هل سيذهبون إلى الجنة يا حضرات المشايخ؟
كل الكلام أرخص من معاناة الناس، ما الذى سيعنيه هذا الكلام لدى شاب فقد الأمل؟، لا شىء، حتى الذين يقرأون كلامى الآن هم مثلى أناس لديهم أمل ما، وإن بدوا يائسين، لو لم يكن لديهم أمل ولو ضئيل لما اشتروا الصحيفة أو حتى دخلوا إلى موقعها الإلكترونى، ببساطة كلنا بنكلم بعض، كلنا نفضل أن نقول «بُقين حلوين عن الأمل واليأس» مع أننا جميعا نعلم أين مشكلتنا، لكن بعضنا أجبن من أن يواجهوا أنفسهم بالحل.. طيب ما هو الحل، يمكن أن أقول لك على رأى النكتة الشهيرة: بسم الله الرحمن الرحيم: الإجابة تونس، لكن تجارب الشعوب لا ينفع معها «الكوبى والبيست» للأسف الشديد، ومع ذلك فالإجابة الوحيدة التى أعرفها أن هذه البلاد لابد أن تتغير، لأنه لا يمكن أن يكون المشروع القومى لهذه البلاد الآن هو إثبات أن الرئيس كان على حق طيلة الثلاثين سنة الماضية. باختصار حكام هذه البلاد لابد أن يرحلوا ويمنحوها فرصة جديدة، وإلا فإنهم باستمرارهم فى البقاء على كراسيهم يحاولون أن يمنعوا انتحار مئات من الشباب بينما هم يدفعون بلداً بأكمله إلى الانتحار.

الخميس، 20 يناير 2011

يبقى انت اكيد اكيد فى مصر


 يبقى انت اكيد فى مصر عندما تعلن جريدة الاهرام الصادرة يوم الثلاثاء ان رئيس الوزراء... سيقوم بزيارة مفاجئة لمصنع الحديد والصلب يوم السبت القادم يبقى انت اكيد فى مصر ... لما تكون بلد مسلمة ومش مربية للخنازير ومن اعلى معدلات الاصابة بانفلونزا الخنازير فى العالم يبقى انت اكيد فى مصر لما لاعيبة الكورة ياخدوا ملايين ومرتب الدكتور 400 جنيه يبقى انت اكيد فى مصر لما عدد السياح اللى بيزوروا الاهرامات المزيفة اللى فى امريكا 10 اضعاف السياح اللى بيزوروا الاهرامات الاصلية فى مصر يبقى انت اكيد فى مصر لما تلاقى جدك الله يرحمه اللى مات وانت عندك سنتين له صوت فى كشف الانتخابات وانت معدى 18 سنة وملكش يبقى انت اكيد فى مصر لما وزير الصحة مراته تتعالج فى مستشفيات غير مصرية وكمان على نفقة الدولة يبقى انت اكيد فى مصر لما بلد عندها نهر النيل بتقطع فيها المية كل نصف ساعة يبقى انت اكيد فى مصر لما يبقى السيطرة على الحريق معناه ان المكان ولع بالكامل يبقى انت اكيد فى مصر لما يبقى المسامير والصراصير من المكونات الرئيسية لرغيف العيش يبقى انت اكيد فى مصر لما المصريين بيزيدوا مولود كل 28 ثانية ومقدروش يغيروا رئيس كل 28 سنة يبقى انت اكيد فى مصر لما الحلول الاساسية لمشكلة الفتنة الطائفية تبقى باغنية مشربتش من نيلها ومصريين بجد وكلنا مصريين يبقى انت اكيد فى مصر لما يتحول البرادعى من بطل قومى وعالم جليل الى رجل خائن ومتربى بره ومش مصرى لمجرد اعلانه نيته الترشح فى الانتخابات يبقى انت اكيد فى مصر وفى النهاية لما قناة تونس تشغل برنامج فى اعماق البحار والمظاهرات مالية الشوارع والرئيس هرب هو وعيلته والبرلمان اتحل يبقى اكيد رئيس قناة تونس ده من مصر يا معلم...

الثلاثاء، 18 يناير 2011

ثورة يمامة


وقفت اليمامة تتحاور وتتساءل:
لم لا يزهو ويعتد بنفسه..؟!
فهو ملك الغابة..! ما أن يزأر، إلا لبت نداءه كل الكائنات الحية من شتى الأنحاء، وألحت فى السؤال:
لم نخضع له دون سواه..؟!
ماذا يميزه عنا..؟
أضخامة جسده..؟! أم حدة أنيابه..؟! أو لعلها شراسته..! ربما رجاحة عقله وحكمته..!!
رأته فى السلم يطلق أسرابا من طيوره لتردد نشيد السلام.. ووقت الحرب يرسل زواحفه تبث سمها بين طرفى النزاع.. احتارت فى أمره، فهو تارة يشجع السلام ويؤازره بكل جوارحه، وتارة يشعل نيران الحرب والفناء، فأمتلأ جسدها النحيل غيظا منه.. قررت أن تثير ثورة ضده.

انتقلت من غصن إلى غصن.. من طير إلى طير من حيوان لآخر.. تلقنه أفكارها.. تعبر عن رأيها.. تحثهم على المطالبة باختيار حاكم غيره.. مبررة عدم أحقيته السيطرة على حياتهم دون رغبتهم.. فليعط فرصة لغيره ..ربما ينجح فى توفير عيشة افضل لهم ..تبادر الى سمعه الأنقلاب الذى تقوده ضده..


طلب مقابلتها فى المكان والزمان اللذين تحددهما، ليستمع لها عن قرب ويتواجها.


دب داخلها شعور بالفرحة جعلها تحلق فى عنان السماء.. رسوخ إيمانها بما دعت إليه دفعها لاقتحام عرينه.. وما أن أدركته حتى انتفض ريشها خشية ورهبة أوشكت التراجع على أثرهما، وسرعان ما استمدت من حماستها قوة رفرفت بها جناحاها من جديد ودخلت إليه ملامسة سقف بيته شاهق الجدران.. بهرها تناغم الألوان والهدوء الذى يسكن المكان، فتلاشى توترها شيئا فشيئا..

وجدته شامخا أمامها.. تأملته بشجاعة.. ركزت على عينيه الواسعتين.. لمحت حزنا مستقرا فيهما.. دموعا متجمدة حائرة بين مقلتيه..علامات الأسى واضحة على جبينه.. ثم جلس مغمضا عينيه، مواريا جبروته، فتساءلـت:
- هل هناك شىء يفتقده ملك الغابة..؟! أم أنه يخفى بين طيات نفسه ضعفا عظيما؟ أو هى لحظة يرثى فيها من فتك بهم وشتت أشلاءهم..؟! ثم استهل حديثه مغلفا كلماته برقة وذوبة لم تعهدهما فيه من قبل..

- كل من حولى ينافقوننى.. لم يجرؤ أحد سواك أن يسقطنى عن عرشى الذى تربعت عليه منذ سنوات بعيدة.


- أعى تماما مدى إمكانياتى المتواضعة.. ولكن كلى ثقة أننى أتساوى معك فى ميزان الحياة.. بل وأتفوق عليك فى العديد من الجوانب.. رغم بروز ضآلتى، وعظمة سلطانك..!!


- كلماتك تحمل بين حروفها سخرية.. هجوما.. تحديا

- لأنك لا تملك غيرهم..تصور لك ذاتك أن الجميع يفكرون مثلك وتنظر اليهم من خلالك..!
- إنها طبيعة وهبنى الله إياها..كيف لى أن أبدلها..؟!
- منحك إياها كى تستغلها فى الدفاع عن نفسك وعن أفراد غابتك..لا فى البطش بهم..أو إزهاق أرواحهم، وإهدار دمائهم.
- الحياة صراع من أجل البقاء.!
- فلنستفت الجميع فى حبهم لى.. فى تأييدهم لمذهبى..لسياستى.
- كى يكون استفساء صحيحيا تنح عن منصبك أولا، لتعرف حقيقة مشاعرهم نحوك بلا زيف ..بلا خوف.
- هز رأسه موافقا، وقال:
- سأتنازل عن ملكى بإرادتى على أن أرشح نفسى من جديد مع منافسين أمثالك
- دون أن تهدد، أو تتوعد لمن لا يختارك..!!
- أعدك بعدم المساس بأى فرد..
علقت اللافتات فى كل ركن بالغابة..كل كائن حى بها اكتشف مقومات داخل ذاته جعلته يتطلع إلى المنصب.. جانب كبير بدأ ينحاز إلى اليمامة لما أحدثته من تغييرات شاملة وواضحة أحسها الجميع.. ارتفع عدد الأصوات المؤيدة لها..الكل ينتخب.. يختار حاكمه بحرية كاملة، عن اقتناع بضرورة تعبير كل فرد عن رأيه، كحق مشروع لكل واحد منهم.

حان موعد إعلان النتيجة..البعض يتوقع.. البعض الآخر يجزم بيقين على معرفته بالفائز حتى قبل أن تجرى الانتخابات..! واشتاقت الآذان لسماع أسم الحاكم الجديد ..جاءهم النبأ فى غضون دقائق معدودة .."الليث الأبيض".!! تهللت وجوه واكفهرت وجوه ..تمتم الحاضرون بكلمات مبعثرة.

- وصل إلى كرسى الحكم بفارق بضعة أصوات عن اليمامة..
- إنها أول معركة انتخابية شهدتها الغابة..!!

الأربعاء، 5 يناير 2011

امشوا يرحمكم الله


من قال لحكومتنا التعيسة إن شيخ الأزهر والمفتى ووزير الأوقاف لديهم أصلاً مصداقية عالية وشعبية جارفة فى أوساط المسلمين لكى تقرر أن يكونوا رؤوس حربتها فى معركتها مع الفتنة الطائفية؟. لماذا لم تسأل القيادة السياسية أجهزتها الأمنية عن حجم شعبية هؤلاء المشايخ فى أوساط المصريين المسلمين قبل أن تبعثهم ليتعرضوا للإهانة من شباب مسيحى طائش؟، هل تظن أنها يمكن أن تستفيد من هذه المكانات الدينية الرفيعة شيئاً يُذكر سواء بين المسلمين أو المسيحيين بعد أن ورطت أصحابها عبر السنين فى السكوت على تزوير الانتخابات وانتهاك حقوق الإنسان والتطبيع مع الصهاينة وبيع كل شىء بالرخيص؟
الآن تذكرتم أن هناك مكاناً اسمه الأزهر لابد أن تكون له مكانة وتأثير ودور؟، الآن تذكرتم أن الساحة يجب أن تخلو من أصوات المتطرفين الذين فتحتم لهم منابر المساجد والقنوات الفضائية على البهلى وجعلتموهم يُخصون قدرة الناس على التفكير والإبداع؟، الآن فقط تنتظرون نجدة من الأزهر ودار الإفتاء بعد أن أصبح أى شيخ يخطب فى جامع بمنطقة عشوائية أكثر تأثيراً وانتشاراً من كل مشايخ الأزهر ودار الإفتاء؟، الآن بعد أن حولتم شيوخ الأزهر إلى موظفين لا يمتلكون استقلالية ولا خيالاً تنتظرون منهم أن يبعثوا الدين الصحيح فى نفوس الشباب؟، هل تتوقعون أن الشباب الذى احتل التطرف فكره وعقله سيقشعر جسده من حديث الدكتور زقزوق الذى لا يبعث إلا على الرغبة فى النوم؟
اتقوا الله فى هذه البلاد، وجربوا سكة السلامة ولو لمرة واحدة، لقد فات الوقت على حلول المرحوم حسن الإمام يا سادة، احتضان الشيخ للقسيس كان مجدياً عندما كان عدونا واحداً، عندما كان عدونا خارجياً، أما الآن فبفضل سياساتكم الفاشلة المستبدة قصيرة النظر المتخبطة عبر عشرات السنين فقد صرنا أعداء لأنفسنا، لقد فعلتم بالمصريين ما لم تفعله بهم جيوش العدوان الثلاثى مجتمعة، كسرتم إرادتهم التى لم تنكسر أمام الأساطيل والطائرات والدبابات، هزمتم هذا الشعب من الداخل، جعلتموه شعباً يحتار فيه أطباء النفس وخبراء الاجتماع، وظننتم أن هناك استقراراً يمكن أن يحدث فى ظل شعب بلا تعليم ولا ثقافة ولا خيال ولا إبداع. إذا كان هناك حل يمكن أن نبدأ به ضمن حزمة حلول معقدة وطويلة المدى فهو بالضرورة حل سياسى يمكن تلخيصه فى كلمتين لا ثالث لهما: الدولة المدنية.
 ينبغى أن يكون الهدف القومى لمصر فى المرحلة القادمة، من أكبر رأس إلى أصغر رأس، هو استعادة المصريين جميعاً إلى حضن الدولة، نعم، الدولة، هذه الكلمة التى صارت ببركاتكم سيئة السمعة، نريد دولة لا يتحدث فيها قسيس باسم المسلمين ولا يتحدث فيها شيخ باسم المسلمين، نريد دولة تتحدث باسم الجميع، دولة تكفل حرية العقيدة للجميع، دولة يكون بها قانون موحد لدور العبادة ويكون فيها المسجد مقدسا كالكنيسة دون أن تجعله تلك القداسة مكانا فوق طائلة القانون، دولة لا يكون فيها للمسيحى ولا للمسلم وكلاء يتحدثون باسمه أو يأتون له بحقه، دولة يسودها العدل الذى هو أساس الملك، تلك الجملة التى يبدو أنكم لم تأخذوها أيام المدرسة، دولة تمنع التمييز بين المصريين على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو الثروة أو العِزوة، دولة تجعل الدين سلوكا لا مظهرا.
دولة تُعَلِّم أطفالها فى جميع مناهج التعليم كيف يُحيون روح الدين، ولا تطبق سياسات تزهق روح الدين والدنيا معا، وهى بالمناسبة دولة لن يصنعها أبداً محترفو انتخابات مزورة ولا أصحاب مصالح ضيقة ولا عديمو خيال ولا مهاويس سلطة، بل سيصنعها الشعب المصرى إذا أراد الحياة، وإذا أدرك أنه يقف على آخر مفترق طرق، وأنه لن يحصل على جنة السماء إلا إذا حاول أولاً صنعها على الأرض.
هذا الحل، أو حَلّ وِسطنا جميعا.