الخميس، 23 ديسمبر 2010

جاسوس ومايبانش عليه


أنا كمواطن واقعى أحرص دائما على تذكير نفسى بأن الإنسان مخلوق من طين لازب، لذلك يمكننى أن أتخيل أن يبيع إنسان وطنه ليصبح جاسوسا، نعم أدين فعله وأرفضه، لكننى أتخيل إمكانية حدوثه فى ظل الوطاية العمومية للعنصر البشرى، وفى ظل إيمانى بحتمية خسران الإنسان إذا لم يتواص بالحق والصبر، لا تنس أن هناك من يبيعون شعوبا وأوطانا بأكملها دون أن يكونوا فى حاجة ماسة إلى المال، وأن هناك من يحققون لإسرائيل أهدافا أهم بكثير من التى تحلم بها، دون أن تنشئ لهم إسرائيل شركات أو تمنحهم رواتب شهرية.


للأسف يمكن أن نتخيل أن يكون الإنسان جاسوسا، لكن ما لا يمكن تخيله ولا فهمه أبدا هو الإصرار الدائم لكل جيران المقبوض عليهم بتهمة التجسس أثناء اشتراكهم فى اللقاءات التى يجريها مراسلو المحطات التليفزيونية على أن جارهم المتهم «كان طيب وغلبان ومؤدب، فى حاله والله.. لا والله عمرنا ما شفنا منه أى حاجة وحشة.. بصراحة دى حاجة مش متوقعة أبدا.. إحنا مش مصدقين اللى حصل ده خالص».


يا ناس، يا بشر، يا خلق، الجاسوس بالذات المفروض ألا ترى منه أى حاجة وحشة، المفروض ألا ترى منه أى حاجة خالص، وطبعا لابد ألا تتوقع عدم كونه جاسوسا، وإلا فحرام فى جتته الفلوس التى يسفحها نظير تجسسه،


يعنى لا يوجد أى أمل فى أن نرى يوما أحد جيران المتهمين بالتجسس وهو يقف أمام كاميرا تليفزيون ليقول بمنتهى الثقة «بسم الله الرحمن الرحيم الإجابة أيوه كنت متوقع إنه جاسوس، عشان فعلا كنت بالاحظ إنه دايما بيخش العمارة وهو شايل علب حبر سرى، ده غير إنه كان راجل شرّانى ومن صغره بيعذب القطط فى الشارع، وأذكر إنه مرة فتح كيس زبالة بتاع أم عصام ونطور الزبالة على السلم.. لعلمك بقى أنا الوحيد اللى كنت متوقع إنه جاسوس وماكانش حد مصدقنى فى الحتة كلها».


الناس فى بلادى طيبون ويحبون المجاملة، ولذلك يتصورون أنهم عندما يقولون كلاما طيبا عن المتهم بالتجسس فإنهم يخففون عن أهله عناء الصدمة، ولذلك فهم حتى إذا لم يقولوا كلاما طيبا بحق المتهم، يقولون كلاما رائعا عن أهله ويتغزلون فى جمالهم وطيبتهم وجدعنتهم وعدم تأخرهم عن أحد، على أساس أن هذه كلها قرائن يمكن أن تخفف خطورة موقفه فى القضية، يا سادة متشكرين، لكن هل سمع أحد منكم عن اختراع اسمه «ما أعرفش»،


لا أحد يطلب منكم أن تقفوا أمام المحطات لترتجلوا خطبة عصماء تتبرأون فيها من الجاسوس اللعين الذى لطخ سمعة المنطقة، فالمتهم برىء حتى تثبت إدانته، وإن كان متهما بالتجسس، لكن فى المقابل لماذا هذا الحرص المذهل لدينا على أن نفتى فى أى شىء، حتى لو كنا لا نعرف عنه أى شىء؟


لا تسألنى لماذا يذيع مراسلو المحطات التليفزيونية من أرفعها إلى أوطاها مثل هذا الكلام الفارغ، فهم يتصورون أن هذه شطارة مهنية للتغلب على عدم وجود معلومات كثيرة فى قضايا حساسة كهذه غير التى تصرح الأجهزة الأمنية بتداولها، فضلا عن استضافتهم لأشخاص من ذوى النزعة البطيخية ليقولوا كلاما أبله عن دور الفقر والبطالة فى تشجيع الشباب على الجاسوسية والوقوع فى الإغراءات الإسرائيلية، مع أن مصر بها ملايين الفقراء الذين يفضلون الموت على خيانة بلادهم، ويقبلون استضافة فيروس سى فى أجسادهم بينما يرفضون استضافة السفير الإسرائيلى،


لاحظ أن هناك من أدينوا فى قضايا تجسس ولم يكونوا عاطلين عن العمل ولا فقراء، ومن بينهم المتهمون فى شبكة التجسس الهاتفى التى ينظرها القضاء حاليا، ومع ذلك لايزال هناك من يتصور أن تركيزه على منظر الشارع الفقير لمنزل المتهم بالتجسس وشكل النشع الموجود على حوائط عمارته هو سبق إعلامى يؤكد الارتباط الشرطى بين الفقر والجاسوسية.


لا يمكن أن ننكر أن الإغراء المادى يشكل حافزا على التجسس، لكن الإغراء المادى لن تكون له أى قيمة لو صادف إنسانا يحب وطنه، ويفهم لماذا يستحق هذا الوطن أن نحبه، حتى لو كان يحكمه أناس بشكل ردىء لا يشجع على هذا الحب، لو كان هذا الشاب يعرف تاريخ بلاده ويعرف عدوه حقا، ولو كان متأكدا أنه لن يُضرب على قفاه ولن تنتهك كرامته إذا عبر عن رأيه، لصب ذلك الشاب سخطه وغضبه فى عمل سياسى يجعله يستعيد حقوقه المسلوبة ويعيش فى وطنه موفور الكرامة ولو كان على قد حاله.


الإغراء المادى سينجح فقط عندما يصادف أجيالا نشأت فى ظل تعليم مضطرب الهوية وإعلام منزوع الكرامة وثقافة مائعة رخوة، وعندما يرى الشباب رموزا سياسية وإعلامية ومجتمعية تتسابق فى إعلان صداقتها وعلاقاتها بقيادات إسرائيلية، وتكسر الإجماع الوطنى على مقاومة التطبيع، وعندما يرى دولته تُصدر الغاز لإسرائيل برخص التراب، وعندما تختل المعايير فيصبح الشقيق عدوا والعدو حليفا من أجل السلام، عندما يحدث كل ذلك سيتكرر للأسف اليوم الذى تسقط فيه أجهزة الأمن القومى اليقظة شبكة تجسس جديدة، بطلها شاب يقسم الجيران بالأيمان المغلظة أنه كان ابن حلال وجدع وماكانش يبان عليه خالص إنه جاسوس.

هناك تعليق واحد: