فى سنواته الأخيرة كان الطاغية التونسى الحبيب بورقيبة يخلط بين الواقع والتمثيل وبين الجد والهزل.. ومع الأيام بدأت عوارض هستيرية تظهر عليه، فقد أصبح يمر من حالة النشوة والضحك إلى حالة من الحزن والبكاء دون أن يكون بإمكانه أن يحبس دموعه بسهولة، ومن حالة المرونة والأريحية إلى حالة عدوانية قصوى يستعمل فيها كلمات جد مبتذلة حتى أمام وزرائه وضيوفه، فمرة سمع يقول لأحد وزرائه »كان بن صالح ينكح كل نساء وزرائى، فلماذا لا تفعل مثله وأنت عازب«، أما فى اجتماعات المكتب السياسى فقد كان يمسك بعصاه ثم يأخذ فى الدوران حول الطاولة ومن حين لآخر كان ينقر رأس أحد وزرائه، وكانت تزداد عدوانية بورقيبة حين يلتقى بالنساء، ففى إحدى المرات وقفت أمامه صحفية وسألها عن اسمها فقالت: حليمة، صمت لحظة ثم التفت إلى مساعديه وقال بلا خجل مشيراً بيده المرتعشة إلى صدرها: أنا أعرف حليمتين، الأولى مرضعة الرسول والثانية هذه السيدة التى يمكن أن ترضع شعباً بأكمله.
ـ فى آخر اجتماع لبورقيبة مع مجلس وزرائه فى الأول من أكتوبر 1987 انفجر شلال السب والشتم من فم بورقيبة باتجاه رئيس وزرائه رشيد بوصفر قائلا له »هل تظن نفسك أنك الزعيم أو أنك تظن أن الزعيم مات؟«، ثم واصل شتمه فوصفه بالنذل والخصى والمخنث، ثم قال له »إننى مازلت قادرا على نزع سروالك«، ثم أضاف: »هل ترى هذه العصا، سوف أضعها فى مؤخرتك، أنت لست رجلا«، وقبل أن يتعب بورقيبة من الصراخ، كان بعض الوزراء قد تسللوا إلى الخارج من فرط الحياء منهوكى القوى والكرامة وقد اكتشفوا أخيراً مدى هشاشتهم أمام ذلك العجوز، كما اكتشفوا أنهم ليسوا إلا شهود زور على قتل بلاد بكاملها. ـ عندما قرر بن على الإطاحة ببورقيبة طبقا للمادة الدستورية التى تفيد بوجود مانع مطلق يمنعه من الحكم تم استدعاء سبعة أطباء فى وسط الليل منهم عسكريان، ليس إلى قصر بورقيبة وإنما إلى وزارة الداخلية حيث التقوا بـ»بن على« الذى طلب منهم وضع تقرير طبى عن عدم قدرة الرئيس صحياً على الحكم، واحتج أحدهم بأنه لم ير بورقيبة منذ سنتين، فرد الجنرال صارما »هذا لا يهم، وقع«، ووقع الأطباء وانصرفوا.
ـ بعد عزله وتحديد إقامته فى قصره بعد 31 سنة من الحكم كان بورقيبة من أجل كسر الملل يلجأ إلى الهاتف فيطلب أرقاما كيفما اتفق وما إن يرد الطرف الآخر حتى يقول له »هل أنتم عائلة منسيترية؟ أنا الحبيب بورقيبة وأحب المنستير«، ثم يقفل السماعة، وقد اتصل مرة بالإذاعة المحلية غاضبا »أنا سبب وجودكم ولا تذكرون اسمى مرة واحدة«. كل الوقائع السابقة مجتزأة من كتاب بورقيبة »سيرة شبه محرمة« للكاتب التونسى الصافى سعيد والصادر عن دار رياض الريس. أما الوقائع التالية فقد اجتزأتها لك من كتاب (صديقنا الجنرال زين العابدين) للكاتبين الفرنسيين نيكولا بو وجان بيير توكوا، ترجمة زياد منى، والذى صدر عن دار قدمس السورية:
ـ فى أول سفر له إلى الخارج بعد توليه الرئاسة أدى بن على العمرة، وشوهد فى التليفزيون يقبل جدار الكعبة والدموع فى عينيه وكتفه عار تماما، وتبدأ أقل مداخلة له بالتعبير الدينى (بسم الله الرحمن الرحيم)، وأعلن »بن على« على الملأ »يتوجب على الدولة وحدها السهر على ازدهار الإسلام وتألقه«.. لقد لعب النظام ببراعة على تناقضات شعب منقسم بذاته، وشهدنا خلال تراجع الإسلاميين إدارة براجماتية وذكية للإسلام. ـ حتى الوثائق المدرسية لـ»بن على« فى ثانوية سوسة اختفت بعد بضعة أيام من توليه الرئاسة.
ـ طالب تونسى اسمه مروان بن زينب كان مهتماً بالمعلوماتية وغير مهتم بالسياسة أبدا، عمره ست وعشرون سنة حصل على منحة جامعية فى أمريكا الشمالية، دخل سهواً على النظام المعلوماتى للقصر الرئاسى، وبعدها باح خائفا للمقربين منه أنه وجد قائمة عملاء للموساد معتمدين فى تونس العاصمة لمراقبة المسؤولين الفلسطينيين المقيمين فى تونس، بعدها بأيام مات مروان فى حادث سير، وفى يوم دفنه لازمت الشرطة عائلته حتى يتم الدفن، كان ذلك فى عام 1989 بعد عامين من التغيير.
ـ عندما انتقد وزير الثقافة السابق محمد شرفى أمام خمسة من ضيوفه فى منزله سياسات بن على استحق بعدها بأيام فى عام 1995 أن تنشر صحيفة حكومية قائمة نفقات ضخمة يعلوها الغبار يعود تاريخها إلى فترة شغله منصب الوزارة تحت عنوان (انظروا أين تذهب أموال أولادنا؟).
ـ عندما علم بن على أن شقيقة ميتران كانت تعيش من مواردها الخاصة اندفع قائلا »لن أترك هذا يحدث لأفراد عائلتى أبدا«.
ـ فى عام 1997 نشر ملحق مجلة »لو نوفيل آفريك آزى« الأسبوعية صورة قديمة لرئيس الدولة يظهر فيها بشعر وخطه الشيب، نجم عن ذلك إتلاف نسخ المجلة، فالجنرال الذى لا يأنف من اللجوء إلى الصبغة، لا يستطيع إلا أن يكون ذا شعر داكن على نحو متناسق.
ـ عرف بن على كيف يستغل الوضع الدولى، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر، على أساس أنه يقود منذ التسعينيات نضالاً ضد الإسلاميين، ويدافع عن النور والديمقراطية، وها هو يحتفى به كأحد أكثر رجال السياسة وعياً فى العالم العربى، كم كان عليهم أن يسمعوه بدل أن ينتقدوه، هكذا يهتف مادحوه، بعد أحداث سبتمبر نبشت الصحافة التونسية مقابلة قديمة منحها بن على لصحيفة نمساوية موضوعها (يجب اجتثاث الإسلاميين، وهذا ما قمت به فى بلدى، انتقدتمونى، ترون اليوم أنى كنت على حق). وبالتالى بدأت الصحف الغربية والمسؤولون الغربيون يتحدثون عن أن الديمقراطية لا تولد بين عشية وضحاها وأنها تحتاج إلى وقت لكى تتحقق.
ـ فى نهاية 2001 كتب الصحفى توفيق بن بريك فى كتابه (مذكرات الواشى) يقول: بن على هنا وسيبقى هنا لأن أمامه طريقاً ممهدة، معارضة سخيفة مجزأة إلى مجموعات صغيرة لا جيش لديها ولا مشروع، زعماؤها هم شركاء سابقون، ومثقفون من نوعية غير جيدة.. واستغرق الأمر عشر سنوات حتى يسقط بن على.
ـ عندما كان المراقبون الغربيون يتساءلون لماذا تندر حالات الإضراب عن الطعام فى السجون التونسية وجدوا تفسيرا فى رسالة من طبيب شقيق معتقل فى سجن تونسى أرسلت إلى صحيفة فرنسية فى عام 1998 كشف فيها أنه عندما يبدأ سجناء الرأى فى الإضراب عن الطعام، يقوم الحراس فى اليوم الثالث للإضراب بتقييدهم وإعطائهم حقناً شرجية فيها مواد دوائية مثل الفاليوم وعند الاستيقاظ لا يعود السجناء يتذكرون أنهم كانوا مضربين عن الطعام، وبهذه الطريقة ينهى إضرابهم.
ـ فى بدايات قمع الملتحين فى عام 1991 مات الطالب فيصل بركات، وهو طالب فى قسم الرياضيات كان قد طالب فى مقابلة متلفزة بالحرية النقابية، وتم إخبار أسرته أنه مات فى حادث سيارة لكن التشريح الطبى قال إن الوفاة ناجمة عن إدخال جسم فى الشرج، وهى ظاهرة نادرة للغاية فى حوادث السير، وحتى اليوم (2002) يتعرض شقيقه لملاحقة أعوان النظام كيلا يتقدم بشكوى هو أو عائلته.
أما زوجة الناشط الإسلامى اللاجئ فى ألمانيا السيدة بوجريص، وهى أم لثلاثة أطفال، فقد انقض عليها ذات يوم حوالى عشرين شرطياً ونزعوا عنها ثيابها حتى عروها وأخذوا يكيلون لها الضربات على كل أجزاء جسمها وهم يشتمونها، ناعتين إياها بالساقطة، وهددوها بالاغتصاب إذا لم تقل كل ما تعرف عن زوجها، بعد ذلك استخدم رجال الشرطة الصدمات الكهربائية وعندما أغمى عليها توقفوا عن تعذيبها وأرغمت على طلب الطلاق من زوجها مرتين. هذا غيض من فيض حكايات موثقة دولياً عن ما كان يحدث فى عهد الطاغية بن على الذى تستضيفه المملكة العربية السعودية التى تحتضن الكعبة المشرفة وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
ـ أخيرا قال الله تعالى فى كتابه الكريم »ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. مهطعين مقنعى رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء«، ولعل عظمة الشعب التونسى أنه لم يكتف بالانتظار حتى يأتى ذلك اليوم بل عمل بأوامر الله تعالى فسعى لتعجيل العقاب للظلمة فى الدنيا قبل أن يذوقوا العذاب المهين فى الآخرة.